المقدمة الثامنة

المقدمة الثامنة

في ثبوت الحقائق الشرعية

اختلف الاصوليون في ثبوت الحقائق الشرعية وتحقيق المقام من غير اطالة بابرام النقض ولا نقض الا برام هو ان اللفظ ان استعمل فيما وضع له فهو حقيقة والا فهو مجاز، والواضع ان كان هو الشارع اي الله سبحانه أو الرسول فحقيقة شرعية، وان كان غيره فلغوية أو عرفية خاصة أو عامة. ولا نزاع في ان الالفاظ المتداولة في لسان اهل الشرع المستعملة في خلاف معانيها اللغوية قد صارت حقائق في تلك المعاني عندهم، كاستعمال الصلاة الموضوعة لغة الدعاء في ذات الاركان الخمسة ونحوها. انما النزاع في ان هذا الاستعمال هل هو بطريق النقل عن الشارع فتكون حقائق شرعية، أو بطريق المجاز بمعنى ان الشارع انما استعملها في تلك المعاني مجازا بمعونة القرينة ولكن غلب في ألسنة اهل الشارع استعمالها كذلك حتى افادت من غير قرينة فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية ؟ فقيل بالاول بل هو المشهور بينهم محتجين بوجوه: (اظهرها) القطع بتبادر هذه المعاني من تلك الالفاظ إلى الفهم عند اطلاقها، وهو علامة الحقيقة. وذهب بعض إلى الثاني، طاعنا في الحجة المذكورة ومحتجا بما هو مذكور في مطولات الاصول مما لا يرجع عند التحقيق إلى ثمرة ولا محصول.


[ 119 ]

وتوقف ثالث، قائلا ان الحق انه لم يعلم من حال الشارع غير اصل الاستعمال. واما طريقه فغير معلوم، لان ادلة الطرفين في غاية الضعف، وتبادر هذه المعاني لنا غير مفيد، إذ يحتمل ان يكون ذلك لاجل الاشتهار عندنا. هذاا. والاظهر عندي هو القول الاول وعليه من بين تلك الاقوال المعول، ولنا عليه دليل التبادر الذي هو عندهم امارة الحقيقة ومعيارها وعليه في جميع الاحوال مدارها. وما قيل في الجواب عن ذلك، من ان التبادر المذكور عند سماع هذه الالفاظ، ان كان بالنظر إلى اطلاق الشارع فهو ممنوع بل هو اول المسالة، وان كان بالنظر إلى اطلاق المتشرعة فهو غير مفيد قطعا، لان اللازم حينئذ كونها حقائق عرفية لا شرعية مردود بان من صفا ذهنه من شوب الشبهة والعناد وكان له انس بكلام الشارع ولو في اكثر المواد، يعلم قطعا ان الصدر الاول من الصحابة والتابعين وجملة السلف المتقدمين كانوا متى حكى النبي (صلى الله عليه واله) عن الله سبحانه وصف احد بالايمان أو الكفر أو الشرك أو حصل منه (صلى الله عليه واله) الامر بصلاة أو زكاة أو حج طهارة أو المنع عن النجاسة أو نحو ذلك، يفهمون بمجرد اطلاق هذه الالفاظ المعنى الشرعي منها متى تقدم لهم العلم بالوضع، ومن انكر ذلك نسأل الله سبحانه ان يصلح وجدانه ويثبت جنانه. ومن الاخبار الدالة على ذلك موثقة سماعة قال: ” سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن ؟ فقال: نعم. قول الله عزوجل: (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا..).. الحديث “. إلا ان الظاهر ان الخلاف في هذه المسالة قليل الجدوى، لاتفاقهم على ان


[ 120 ]

استعمال هذه الالفاظ في تلك المعاني الشرعية في كلام الائمة (عليه السلام) حقيقة وان كانت عرفية خاصة لا شرعية، وهو كاف في صحة الاستدلال بها والاعتماد عليها وانما يظهر الخلاف فيما وقع منها في كلام الشارع من القرآن العزيز أو السنة النبوية، واستقلال القرآن سيما على ما فصلناه آنفا والسنة النبوية من غير جهة نقل الائمة (عليهم السلام) مما لا يكاد يتحقق في الاحكام، كما لا يخفى على من سرح يريد النظر في المقام. وبهذا يظهر لك ما في إيراد شيخنا ابي الحسن (قد) في بعض مؤلفاته على شيخنا البهائي وصاحب المعالم، حيث انه قائل بثبوت الحقيقة الشرعية وهما مانعان منه بالاخبار الدالة على الطهارة والنجاسة والحل والتحريم والوجوب والاستحباب مع خلوها من القرائن، حيث قال بعد تقديم الكلام في ذلك: ” على انا نقول: لو تم ما ذكروه من التشكيك الركيك للزم ان كل ما ادعينا انه حقيقة شرعية فهو مجاز لا يصار إليه الا بقرينة، وحينئذ ينسد باب الاحتجاج باكثر الاخبار المشتملة على هذه الالفاظ العارية عن القرائن المعينة للمراد، وهم لا يلتزمونه، بل هذان الشيخان وغيرهما قد اكثروا من الاحتجاج بامثال هذه الاخبار على مطالبهم غافلين عما يرد عليهم، وتراهم اكثروا من الاحتجاج على النجاسة والطهارة والحل والتحريم والوجوب والاستحباب بهذه الالفاظ، فهم يأتون في ذلك على المثل السائر: ” الشعير يؤكل ويذم ” انتهى. فان فيه كما عرفت انه لا خلاف في ان استعمال تلك الالفاظ في المعاني الشرعية في كلام الائمة (عليهم السلام) حقائق يجب الاعتماد عليها والاستناد إليها وان كانت عرفية خاصة، وانما محل الخلاف ومظهره وقوعها في كلام الشارع، اما مجردة عن القرينة فعند من يقول بثبوت الحقائق الشرعية بحملها على ذلك


[ 121 ]

وعند من ينفيها بحملها على المعاني اللغوية، واما مع القرينة الدالة على المعنى الشرعي فهي حقيقة شرعية على الاول ايضا ومجاز على الثاني. هذا. وما اشتهر في كلام جملة من اصحابنا (رضوان الله عليهم) من ان الواجب حمل الخطابات الواقعة في الشريعة على الحقيقة الشرعية ان ثبتت، والا فعلى عرفهم (عليهم السلام) ان علم، والا فعلى الحقيقة اللغوية ان وجدت، والا فعلى العرف العام مما لم يعثر له على مستند ولم يقم عليه دليل معتمد، وانما المستفاد من اخبارهم كما مر انه مع عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي يجب الفحص والتفتيش ومع العجز عن الظفر بالمراد يجب رعاية الاحتياط والوقوف على سواء ذلك الصراط. على انه لا يخفى ما في بناء الاحكام على العرف العام من العسر والحرج المنفيين بالآية والرواية فانه يوجب استعلام ما عليه كافة الناس في اقطار الارض. واما البناء على العرف الخاص مع تعذر العام كما صار إليه بعضهم، ففيه انه يوجب الاختلاف في الاحكام الشرعية، والمستفاد من الاخبار ان كل شيئ يؤدي إلى الاختلاف فيها فلا يجوز النباء عليه. والله العالم.