غايات الجنابة

المقصد الثاني

في الغاية

 

والمراد بها ما لا يستباح فعله الا بالغسل، ومنها الواجب اصالة أو بعارض فيجب المغيابها، ومنها ما ليس كذلك فيكون شرطا في استباحته، وهي امور:

(الاول) – الصلاة وهي ان كانت واجبة فوجوب الغسل لها مما انعقد عليه الاجماع فتوى ودليلا آية ورواية. لكن الوجوب هنا محتمل لمعنيين: (احدهما) – ان المراد وجوب الغسل بمعنى امر الشارع به امرا حتميا يترتب على مخالفته الاثم للصلاة، وهذا انما يتم بقوله:


[ 45 ]

” اغتسل للصلاة ” ونحوه مما يؤدي هذا المعنى. و (ثانيهما) – ان المراد شرطيته لها بمعنى انها لا تصح بدونه. وغاية ما يستفاد من الادلة آية ورواية هو الثاني، وهذا هو القدر الثابت بالضرورة من الدين. اما الآية وهي قوله سبحانه: “… إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، الى قوله: وان كنتم جنبا فاطهروا… ” (1) فدلالتها على المعنى الاول مبني على عطف قوله: ” وان كنتم جنبا ” على جزاء الشرط الذي هو جملة ” فاغسلوا ” ودخولها في حيز ” إذا قمتم ” الا انه يحتمل العطف على جملة ” إذا قمتم ” وحينئذ فلا دلالة فيها. وفيه (اولا) – ان العطف ب‍ ” ان ” دون ” إذا ” يأبى ذلك. و (ثانيا) – ان قوله: ” وان كنتم مرضى ” وما بعده الواقع بعد قوله: ” وان كنتم جنبا ” مندرج تحت الشرط البتة، فلو كان قوله: ” وان كنتم جنبا ” الذي هو متوسط بينهما معطوفا على قوله: ” إذا قمتم ” أو كان مستأنفا لم يتناسق المتعاطفان، وللزم ان لا يستفاد الارتباط بين الغسل والصلاة من الآية، والمعلوم من الاخبار خلافه، ومن هنا يستفاد من الآية الوجوب الغيري كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. الا انه قد تقدم في موثقة ابن بكير (2) تفسير القيام الى الصلاة بالقيام من حدث النوم، مع الاجماع المنقول عن المفسرين على هذا المعنى، وحينئذ فوجوب الغسل للصلاة في غير الصورة المذكورة يرجع فيه الى السنة المطهرة، أو يضم الى ذلك تنقيح المناط القطعي، للجزم بعدم مدخلية النوم في ذلك الا من حيث اغلبية تأخير الغسل الواقع سببه ليلا الى الصبح، وذلك لا مدخل له في ترتب وجوب الغسل على الصلاة. ومما يدل من الاخبار على ذلك روايات متفرقة في جزئيات الاحكام المرتبطة


(1) سورة المائدة الآية 8 و 6. (2) المروية في الوسائل في الباب 3 من ابواب نواقض الوضوء


[ 46 ]

بذلك، و (منها) – قوله عليه السلام في رواية زرارة (1) في من ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة حتى دخل في الصلاة: “… وان رآه وبه بلة مسح عليه واعاد الصلاة… ” و (منها) – قوله (عليه السلام) في رواية الحلبي (2) في من اجنب في شهر رمضان فنسي ان يغتسل حتى خرج الشهر: ” عليه ان يغتسل ويقضي الصلاة والصيام “. و (منها) – قوله (عليه السلام) في رواية الحسن الصيقل (3) في من تيمم وقام يصلى فمر به نهر وقد صلى ركعة: ” فليغتسل وليستقبل الصلاة ” الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.

(الثاني) – الطواف وسيأتي الكلام عليه بقسميه ان شاء الله تعالى في كتاب الحج.

(الثالث) – مس كتابة القرآن، وهو ان كان واجبا فالغسل له واجب والا فهو شرط في استباحته. وكل منهما مبني على تحريم المس على المحدث حدثا اكبر، والظاهر انه اجماعي كما نقله غير واحد من معتمدي الاصحاب، بل نقل في المعتبر والمنتهى انه اجماع علماء الاسلام، ونقل عن العلامة في النهاية انه لا خلاف هنا في تحريم المس وان وقع الخلاف في الحدث الاصغر. ونقل الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد القول بالكراهة، وذكر انه كثيرا ما يطلق الكراهة ويريد التحريم فينبغي ان يحمل كلامه عليه. وهو جيد فان اطلاق الكراهة في كلام المتقدمين كما في الاخبار شائع. واما نقل ذلك عن المبسوط كما في المدارك فقد رده جمع ممن تأخر عنه بانه سهو وانه انما صرح بذلك في الحدث الاصغر واما الاكبر فقد صرح فيه بالتحريم، وجنح في المدارك بعد نقل القول بالكراهة عن ابن الجنيد والمبسوط الى ذلك زاعما ضعف الادلة سندا ودلالة. وتحقيق البحث في هذه المسألة وفروعها قد تقدم مستوفى في المطلب الثاني من الباب الثاني (4)


(1) المروية في الوسائل في الباب 41 من ابواب الجنابة (2) المروية في الوسائل في الباب 39 من ابواب الجنابة. (3) المروية في الوسائل في الباب 21 من ابواب التيمم. (4) ج 2 ص 122


[ 47 ]

الا انه نقل هنا عن السيد المرتضى (رضى الله عنه) تحريم مس هامش القرآن للجنب والحائض، ولم نقف له على دليل، وربما استدل له على ذلك بحسنة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه السلام) (1) قال: ” الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا الا السجدة… ” ورواية ابراهيم بن عبد الحميد عن ابي الحسن (عليه السلام) (2) قال: ” المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمسه خطه ولا تعلقه… ” ولا يخفى ما فيهما من قصور الدلالة على ذلك.

(الرابع) – مس ما عليه اسم الله تعالى من دراهم وغيرها، وقد وقع في كلام جملة من الاصحاب التعبير بمثل ما ذكرنا الا ان الظاهر ان المراد من ذلك مس نفس الاسم كما هو صريح المحقق (رحمه الله تعالى) في المعتبر، حيث قال: ” ويحرم عليه مس اسم الله سبحانه ولو كان على درهم أو دينار أو غيرهما ” والمعروف من كلام الاصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف هو التحريم. واستدل عليه في المعتبر بموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليهم السلام) (3) قال: ” لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله… “. وطعن جملة من متأخرى المتأخرين في الخبر المذكور بضعف السند ومعارضته بما رواه في المعتبر من كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن ابي الربيع عن ابي عبد الله (عليه السلام) (4) ” في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله ؟ قال: لا بأس به ربما فعلت ذلك “. ومما يعضد موثقة عمار ظاهر القرآن من قوله سبحانه: “… ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب ” (5) الدال ظاهرا على ان عدم التعظيم صادر عن عدم التقوى


(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من ابواب الجنابة (2) المروية في الوسائل في الباب 12 من ابواب الوضوء (3) و (4) المروية في الوسائل في الباب 18 من ابواب الجنابة (5) سورة الحج الآية 31


[ 48 ]

لما قيل من ان علة النقيض نقيض العلة. وظاهر حسنة داود بن فرقد عنه (عليه السلام) (1) قال: ” سألته عن التعويذ يعلق على الحائض. قال نعم لا بأس. قال وقال: تقرأه ولا تكتبه ولا تصيبه يدها “. ورواية منصور بن حازم (2) الدالة على ان جواز تعليق التعويذ على الحائض مشروط بما إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة أو حديد لئلا يستلزم مس الكتابة. ومما يعضد رواية ابي الربيع ايضا ما رواه في المعتبر من جامع البزنطي عن محمد ابن مسلم عن ابي جعفر (عليه السلام) (3) قال: ” سألته هل يمس الرجل الدرهم الابيض وهو جنب. فقال: اي والله اني اوتى بالدرهم فاخذه واني لجنب. وما سمعت احدا يكره من ذلك شيئا الا ان عبد الله بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا، يقول جعلوا سورة من القرآن في الدرهم فيعطى الزانية وفى الخمر ويوضع على لحم الخنزير ” وقوله: ” وما سمعت احدا… الخ ” يحتمل لان يكون من كلام الامام (عليه السلام) وان يكون من كلام محمد بن مسلم، والاول اظهر، وبه يقوى الاستدل بالخبر على الجواز. وموثقة اسحاق بن عمار عن ابي ابراهيم (عليه السلام) (4) قال: ” سألته عن الجنب والطامث يمسان بايديهما الدراهم البيض. قال: لا بأس “. ويمكن الجمع بحمل موثقة عمار على مس نفس الاسم وان عبر عنه بمس الدرهم والدينار كما وقع في جملة من عبائر الاصحاب، وخبر ابي الربيع على مس الدرهم من غير تعد الى الاسم الذي عليه. واما العمل بروايات الجواز لموافقتها الاصل وحمل ما دل على المنع على الكراهة فظني بعده، إذ نسبته (عليه السلام) ذلك الى نفسه في رواية ابي الربيع مما يبعد ذلك. وكيف كان فسبيل الاحتياط واضح. والحق جملة من الاصحاب تبعا للشيخين (قدس سرهما) باسمه سبحانه اسماء


(1) و (2) المروية في الوسائل في الباب 37 من ابواب الحيض (3) و (4) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة


[ 49 ]

الانبياء والائمة (عليهم السلام) ولم نقف له على مستند ولعله مجرد التعظيم. والله اعلم.

(الخامس) – دخول المسجدين ولو اجتيازا، ولا خلاف فيه بين الاصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) فيما اعلم. ويدل عليه حسنة جميل (1) قال: ” سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب يجلس في المساجد ؟ قال: لا ولكن يمر فيها كلها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) ” وروايته الاخرى (2) ورواية محمد بن حمران (3) وحسنة محمد بن مسلم (4). ونقل في الذكرى عن الصدوقين والمفيد انهم اطلقوا المنع عن دخول المساجد الا اجتيازا، وربما اشعر ذلك بجواز الاجتياز في المسجدين، وهو ضعيف بما ذكرنا من الاخبار بقي هنا شئ لم يتنبه له لاصحاب (رضوان الله عليهم) فيما وقفت عليه من كتبهم وهو جواز دخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) له وللمعصومين من آله (صلوات الله عليهم) مع الجنابة بل اللبث فيه وان ذلك من جملة خصائصهم. فمما وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده فيه عن الرضا عن آبائه عن امير المؤمنين (عليه السلام) (5) قال: ” قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يحل لاحد ان يجنب في هذا المسجد الا انا وعلي وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من اهلي فانه مني “. وما رواه فيه ايضا وفى كتاب عيون اخبار الرضا (عليه السلام) (6) في حديث طويل عنه (عليه السلام) قال: ” قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ” ألا ان هذا المسجد لا يحل لجنب الا لمحمد وآله “. وما رواه في كتاب العلل (7) بسنده الى ابي رافع قال: ” ان رسول الله (صلى.


(1) و (2) و (3) و (4) و (5) و (6) و (7) المروية في الوسائل في الباب 15 من ابواب الجنابة


[ 50 ]

الله عليه وآله) خطب الناس فقال: ايها الناس ان الله امر موسى وهارون ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وامرهما ان لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته، وان عليا مني بمنزلة هارون من موسى، ولا يحل لاحد ان يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب إلا على وذريته… “. ورواه فيه (1) ايضا بسند آخر قريبا من ذلك وقال فيه: ” ثم امر موسى ان لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله جنب إلا هارون وذريته، وان عليا مني بمنزلة هارون من موسى وهو اخي دون اهلي، ولا يحل لاحد ان ينكح فيه النساء الا علي وذريته… ” وفيها زيادة على ما ذكرنا حل النكاح لهم فيه فضلا عن الدخول بالجنابة وما رواه في تفسير الامام (عليه السلام) (2) روى عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث سد الابواب انه قال: ” لا ينبغى لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت في هذا المسجد جنبا الا محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمنتجبون من آلهم الطيبون من اولادهم.

(السادس) – اللبث فيما عدا المسجدين من المساجد، والظاهر ان الحكم موضع وفاق بين الاصحاب ما عدا سلار حيث نقل عنه القول بالكراهة. ويدل على المشهور قوله سبحانه: “… ولا جنبا الا عابري سبيل… ” (3) المفسر في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه السلام) المروية في كتاب العلل (4) بذلك حيث قالا: ” قلنا له: الحائض والجنب يدخلان المسجد ام لا ؟ فقال: الجنب والحائض لا يدخلان المسجد الا مجتازين، ان الله تبارك وتعالى يقول: ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا… الحديث “. ورواه العياشي في تفسيره عن الباقر (عليه السلام) والثقة الجليل علي بن ابراهيم


(1) و (2) و (4) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة (3) سورة النساء الآية 43


[ 51 ]

القمي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) وبه يظهر لك ضعف كلام بعض فضلاء متأخري المتأخرين حيث قال: ” واما الاستدلال بالآية فمشكل، لعدم تعين هذا المعنى فيه واحتمال غير ذلك كما عرفت سابقا ” انتهى. وفيه ان الاحتمالات المذكورة في كلام سائر المفسرين لا تعارض تفسير اهل البيت (عليهم السلام) سيما مع صحة سند الرواية وتعدد الناقل لها عنهم (عليهم السلام) إذ القرآن عليهم انزل واليهم يرجع فيما ابهم منه واجمل. ويدل على ذلك ايضا الاخبار المستفيضة، ومنها – حسنة جميل المتقدمة (1) والروايات الاخر التي بعدها واخبار اخر طوينا ذكرها. ولم نقف لسلار على دليل سوى التمسك بالاصل، ولا ريب في ضعف التمسك به بعد ما عرفت. وربما يستدل له بصحيحة محمد بن القاسم (2) قال: ” سألت ابا الحسن (عليه السلام) عن الجنب ينام في المسجد ؟ فقال: يتوضأ ولا بأس ان ينام في المسجد ويمر فيه “. وفيه (اولا) – انها اخص من المدعى. و (ثانيا) – انها مخالفة للآية والرواية المستفيضة فيجب طرحها، قال في المعتبر بعد نقلها: ” انها متروكة بين اصحابنا لانها منافية لظاهر التنزيل ” واحتمل بعض الاصحاب حملها على التقية لموافقتها لمذهب بعض العامة. وهو جيد فانه منقول عن احمد بن حنبل (3) حيث قال: ” إذا توضأ الجنب جاز ان يقيم في المسجد كيف شاء ” بل لو لم ينقل القول بذلك عن احد منهم فالحمل على التقية متعين كما نبهنا عليه غير مرة.


(1) ص 49 (2) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة (3) في المغنى لابن قدامة الحنبلى ج 1 ص 146 ” إذا توضأ الجنب له اللبث في المسجد في قول اصحابنا واسحاق، وقال اكثر اهل العلم لا يجوز للآية والخبر ” ثم استدل على ذلك بالاجماع المستفاد من حديث زيد بن اسلم وانه مخصص للعموم وبوجه اعتباري


[ 52 ]

واما حمل المحدث الكاشاني في الوافي – التوضؤ المأمور به على تطهير البدن بالغسل – فظني بعده. وظاهر الصدوق (قدس سره) في الفقيه القول بمضمون الرواية المذكورة، حيث قال: ” ولا بأس ان يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب، الى ان قال: وينام في المسجد ويمر فيه ” ومثله في المقنع، وظاهره تخصيص الاباحة بالنوم من افراد اللبث، ولم يذكر التوضؤ الذي في الرواية. وكيف كان فهو محجوج بالآية والرواية المستفيضة، فروايته مطروحة لمخالفتها القرآن الذي هو المحكم في الاخبار عند تعارضها، بل مع عدم التعارض ايضا كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب، وضعفها عن معارضة ما ذكرنا من الاخبار. وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض محققي متأخري المتأخرين، حيث قال – بعد نقل الرواية المذكورة ونقل كلام المعتبر واحتمال الحمل على التقية – ما صورته: ” ولا يذهب عليك انه لو لم تكن الشهرة العظيمة بين الاصحاب لامكن الجمع بين الروايات بحمل ما تقدم على الكراهة وبحمل هذه الرواية على نفي الحرمة، لكن الاولى اتباع الشهرة ” انتهى. ولا اراك في شك من ضعف هذا الكلام ان احطت خبرا بالقواعد المقررة عن اهل الذكر (عليهم السلام) والعجب منه (قدس سره) ومن امثاله انهم يعتمدون على الشهرة بين الاصحاب ويلتجؤون إليها في جميع الابواب، ويتركون الشهرة في الاخبار التي هي احد المرجحات المروية في هذا المضمار، ويبنون في الجمع بين الاخبار على ارتكاب المجاز في الامر والنهى. وفيه – مع انه لا مستند له في الشريعة – انه لا قرينة ثمة لتكون الوسيلة الى ذلك والذريعة، وقد تقدم لك في مقدمات الكتاب ما في البناء على هذه القاعدة من الاضطراب. بقي هنا شئ وهو ان المحرم هنا انما هو اللبث اما الاجتياز فهو جائز بالآية


[ 53 ]

والرواية، لكن هل المراد بالاجتياز ان يدخل من باب ويخرج من آخر، أو يشمل الدخول والخروج من باب واحد من غير لبث ولا تردد، أو يشمل التردد مغدا ومجيئا في نواحي المسجد ؟ المقطوع به من ظاهر الآية والرواية الواردة في تفسيرها هو الاول، وفى شمولها للثاني احتمال ليس بذلك البعيد، واما الثالث فالظاهر القطع بعدمه، وبه صرح العلامة على ما نقل عنه، لكن في رواية العلل المشار إليها آنفا (1) قال: ” للجنب ان يمشي في المساجد كلها ولا يجلس فيها الا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) ” والظاهر ان اطلاقها يحمل على ما افاده غيرها من التقييد. وألحق جملة من متأخري اصحابنا بالمساجد الضرائح المقدسة والمشاهد المشرفة، ورده جملة من متأخري المتأخرين بعدم المستند الموجب للتحريم.

اقول: ويمكن الاستدلال عليه بظاهر آية تعظيم شعائر الله (2) وبالاخبار الدالة على عدم جواز دخول الجنب بيوتهم احياء، ولا ريب ان حرمتهم امواتا كحرمتهم احياء ومن تلك الاخبار ما رواه الصفار في كتاب بصائر الدرجات (3) في الصحيح عن بكر بن محمد قال: ” خرجنا من المدينة نريد ابا عبد الله (عليه السلام) فلحقنا أبو بصير خارجا من زقاق وهو جنب ونحن لا نعلم حتى دخلنا على ابي عبد الله (عليه السلام) فرفع رأسه الى ابي بصير فقال: يا ابا محمد أما تعلم انه لا ينبغي لجنب ان يدخل بيوت الانبياء ؟ قال: فرجع أبو بصير ودخلنا ” ومثله روي في كتاب قرب الاسناد. وروى الكشي في كتاب الرجال (4) بسنده عن بكير قال: ” لقيت ابا بصير فقال اين تريد ؟ فقلت: اريد مولاك. قال انا اتبعك. فمضى فدخلنا عليه، واحد


(1) ما ذكره انما هو نص رواية جميل المشار إليها ص 49 بقوله: وروايته الاخرى. ولعل لفظ (العلل) من غلط النساخ. (2) سورة الحج الآية 33 (3) و (4) رواه في الوسائل في الباب 16 من ابواب الجنابة.


[ 54 ]

النظر إليه وقال هكذا تدخل بيوت الانبياء وانت جنب ؟ فقال اعوذ بالله من غضب الله وغضبك وقال استغفر الله ولا اعود ” وروى نحوه الشيخ المفيد في الارشاد ورواه في كشف الغمة نقلا عن دلائل الحميري. وظاهر الاخبار المذكورة تحريم مجرد الدخول وان كان لا مع اللبث، الا ان يقال ان انكاره (عليه السلام) على ابي بصير لعلمه بارادته اللبث، والاول اقرب.

(السابع) – وضع شئ في المساجد دون الاخذ منها، وهو موضع وفاق ايضا ما عدا سلار، فانه نقل عنه القول بالكراهة، ويضعف بالاخبار الدالة على المنع: و (منها) – صحيحة عبد الله بن سنان (1) قال: ” سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه ؟ قال: نعم ولكن لا يضعان في المسجد شيئا “. وصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المنقولة آنفا من كتاب العلل (2) حيث قال (عليه السلام) بعد ذكر ما قدمنا نقله منها: ” ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا قال زرارة فقلت له: فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه ؟ قال: لانهما لا يقدران على اخذ ما فيه الا منه ويقدران على وضع ما بايديهما في غيره… الحديث “. ونقل عن بعض المتأخرين تخصيص التحريم بالوضع المستلزم لللبث في سائر المساجد والدخول في المسجدين، ونقل عنه الاستدلال بانه قد تعارض اطلاقا تحريم الوضع وتجويز المشي والمرور فيتساقطان ويرجع الى حكم الاصل خصوصا مع اغلبية اقتران الوضع باللبث. ورد بان ظاهر النص تعليق التحريم على الوضع مطلقا ولو كان من خارج والا لم يبق لتعلق التحريم على الوضع معنى، لان فيه اخذ ما ليس بعلة ولا مستلزم للعلة مكانها، ومنه يظهر ان اطلاق تحريم الوضع لا ينافي اطلاق تجويز المرور والمشي ليتساقطا ويرجع الى حكم الاصل كما احتج به، إذ تحريم احد المتقارنين اللذين لا تلازم بينهما


(1) و (2) المروية في الوسائل في الباب 17 من ابواب الجنابة.


[ 55 ]

يجامع تجويز الآخر كما لا يخفى، وايضا فان الخبر المذكور الذي هو مستند الحكم في تحريم الوضع دل على اباحة التناول وتحريم الوضع، فلو خص تحريمه بما ذكر لم يظهر للفرق بينه وبين التناول وجه، إذ اباحة التناول مقيدة بما إذا لم يستلزم لبثا كما هو الظاهر فتوى ودليلا (فان قيل): ان التناول من حيث هو مباح وان كان مقارنه محرما (قلنا): ان الوضع من حيث هو محرم وان كان مقارنه مباحا، بل ما نحن فيه اولى، إذ مقارنة المباح للحرام ان لم توجب حرمة المباح فان لا توجب اباحة الحرام اولى، هذا كله مع قطع النظر عن ظاهر التعليل الذي في رواية العلل، والا فمع النظر إليه لا يبقى لاعتبار القول المذكور ما يوجب النقل في السطور.

(الثامن) – قراءة احدى العزائم الاربع وهي سجدة ” ألم السجدة ” و ” حم السجدة ” و ” النجم ” و ” اقرأ ” ومن العجب سهو جملة من المتقدمين: منهم – الصدوق (رحمه الله) في المقنع والفقيه وجرى عليه جملة من تأخر عنه من عد سجدة ” لقمان ” عوض ” الم السجدة ” مع ان سورة ” لقمان ” ليس فيها سجدة وانما السجدة في السورة التي تليها وهي ” آلم “. هذا، والظاهر ان الحكم موضع وفاق كما نص عليه في المعتبر والمنتهى، الا ان جل المتأخرين ناطوا الحكم بمجموع السورة حتى البسملة إذا قصد بها احدى السور الاربع، وظاهر الاخبار لا يساعدهم على ذلك. فمن الاخبار الدالة على الحكم المذكور حسنة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه السلام) المتقدمة في حكم مس كتابة القرآن (1) وموثقة زرارة ومحمد بن مسلم عنه (عليه السلام) (2) قال: ” الحائض والجنب يقرءان شيئا ؟ قال: نعم ما شاء الا السجدة ويذكران الله على كل حال ” وروى ذلك في المعتبر عن جامع البزنطي عن الصيقل عن ابي عبد الله (عليه السلام) (3).


(1) ص 47 (2) و (3) المروية في الوسائل في الباب 19 من ابواب الجنابة


[ 56 ]

وانت خبير بان الظاهر من هذه الاخبار هو قصر الحكم على نفس السجدة دون سورتها. ووجهه شيخنا المحقق في كتاب رياض المسائل بان السجدة في الاصل مصدر للمرة من السجود، وليس المراد به هنا حقيقته بل معناه المجازي وهو سبب السجدة أو محلها، وليس شئ من ابعاض السورة المذكورة سوى موضع الامر بالسجود سببا ولا محلا. ومن ذلك يظهر ان لا مستند لعموم الحكم سوى الاجماع المدعى في المسألة. وقد عرفت في المقدمة الثالثة ما في هذه الاجماعات المتناقلة في امثال هذه المقامات، سيما مع معارضة الاصل له هنا والعمومات من الكتاب والسنة الدالة على استحباب قراءة القرآن، وحينئذ فالاظهر – كما استظهره جملة من متأخرى المتأخرين – قصر الحكم بالتحريم على موضع ذكر السجود. الا انه قد ورد في جملة من الاخبار – منها الصحيح وغيره – جواز ان يقرأ الجنب من القرآن ما شاء: فمن ذلك صحيحة الفضيل بن يسار عن ابي جعفر (عليه السلام) (1) قال: ” لا بأس ان تتلوا الحائض والجنب القرآن “. وفى صحيحة الحلبي (2) ” في النفساء والحائض والجنب والمتغوط يقرأون القرآن ؟ فقال يقرأون ما شاءوا “. ومن اجل هذه الاخبار مضافا الى عموم ظاهر الكتاب لم يعتمد شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل الا على الاجماع المدعى في المقام، مؤيدا ذلك بالطعن في دلالة تلك الاخبار على المدعى بانه كما يحتمل الاستثناء في قوله: ” نعم ما شاءا الا السجدة ” ان يكون استثناء من اصل جواز قراءة القرآن يحتمل ان يكون استثناء من استحبابها ولا يفيد الا رفع الاستحباب ولا يقتضي التحريم. وفيه ان اخبار السجدة مقيدة وتلك مطلقة والمفيد يحكم على المطلق، وعمومات الكتاب واطلاقاته تخصص بالسنة كما وقع


(1) و (2) المروية في الوسائل في الباب 19 من ابواب الجنابة.


[ 57 ]

في غير موضع، وقد مر تحقيق القول فيه في مقدمات الكتاب. واحتمال الاستثناء من الاستحباب بعيد من سياق الاخبار، إذ سياق ما فيها من الاحكام المشتملة عليها في غير موضع النزاع كله بالنسبة الى الجواز وعدمه من دخول المساجد واللبث فيها ودخول مسجدي الحرمين والوضع في المسجد والاخذ منه، على انه لا معنى هنا للاستثناء من الاستحباب بعد ثبوت اصل الجواز، إذ بعد ثبوت الجواز يلزم الاستحباب الذي هو عبارة عما يوجب ترتب الثواب على ذلك، إذ قراءة القرآن من جملة العبادات البتة فالمناسب هو السؤال عن اصل الجواز وعدمه. ونقل عن الشيخ في التهذيب انه استدل على الحكم المذكور بان في هذه السور سجودا واجبا ولا يجوز السجود الا لطاهر من النجاسات بلا خلاف، مع انه قال بعيد هذا باستحباب السجود للطامث.

(التاسع) – الصوم، ووجوب الغسل للواجب منه وشرطيته للمستحب هو المشهور بين الاصحاب (رضوان الله عليهم) ونقل عن الصدوق (رضي الله عنه) القول بعدم الوجوب، واليه مال المحقق الاردبيلي، واختاره العلامة الفيلسوف العماد مير محمد باقر الداماد كما صرح به في رسالته الموضوعة في مسائل التنزيل. والاخبار من الطرفين متعارضة الا ان الاخبار الدالة على القول المشهور اكثر عددا واصرح دلالة، وسيجئ نشر الاخبار في المسألة ان شاء الله تعالى في كتاب الصوم. والاظهر العمل على المشهور (اما اولا) – فلاعتضاد اخباره بعمل الطائفة قديما وحديثا بذلك، ولم ينقل الخلاف في ذلك عن احد من متقدمي الاصحاب الا عن الصدوق وفى ثبوت النقل اشكال، فانه لم يصرح بذلك في فقيهه ولا في شئ من كتبه، وانما نسب إليه القول بذلك برواية رواها في المقنع (1) حيث قال: ” وسأل حماد بن عثمان أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اجنب في شهر رمضان من اول الليل فاخر الغسل


(1) رواها في الوسائل في الباب 13 من ابواب ما يمسك عنه الصائم


[ 58 ]

الى ان يطلع الفجر. فقال: قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجامع نساءه من اول الليل ويؤخر الغسل الى ان يطلع الفجر، ولا اقول كما يقول هؤلاء الاقشاب يقضي يوما مكانه ” قالوا: ومن عادته في الكتاب المذكور الافتاء بمتون الاخبار. وفى ثبوت نسبة القول المذكور له بذلك تأمل، سيما مع نقله في فقيهه جملة من الاخبار الدالة على القضاء بترك الغسل وان كان نسيانا المؤذن بموافقة القول المشهور. والمعهود منه عدم الاختلاف في الفتوى في كتبه كما هو الطريق الذي عليه غيره من المحدثين. و (اما ثانيا) – فلان من القواعد المقررة عن اهل العصمة (سلام الله عليهم) عرض الاخبار عند اختلافها على مذهب العامة والاخذ بخلافه، والاخبار المخالفة للمشهور موافقة لهم، وفى بعض منها ما يؤذن بذلك كاسناد الامام (عليه السلام) النقل الى عائشة في رواية اسماعيل بن عيسى (1) واشعار ظاهر رواية حماد المتقدمة بمداومته ((صلى الله عليه وآله) على ذلك، ومن البعيد مداومته على المكروه ان لم نقل بالتحريم وما ربما يقال – من ان اخبار المشهور وان ترجحت بمخالفة العامة الا ان اخبار القول الآخر معتضدة بظاهر القرآن، وهو قوله سبحانه: ” احل لكم ليلة الصيام الرفث… الآية ” (2) الدال باطلاقه على التحليل في كل جزء من اجزاء الليل التي من جملتها الجزء الاخير – فالجواب عنه – بعد تسليم جواز الاستدلال بالظواهر القرآنية بغير تفسير وارد فيها عن اهل العصمة (سلام الله عليهم) – بانه قد تقدم في المقدمة السادسة الاشارة الى انه لا يصح الاختلاف بين هاتين القاعدتين. بمعنى ان كل ما خالف العامة من الاخبار الخارجة عنهم (عليهم السلام) فهو موافق للقرآن العزيز وان لم يهتدوا الى وجه الموافقة ولا يجوز ان يكون مخالفا له، وذلك لان الاحكام الواقعية الخارجة لا على جهة التقية


(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من ابواب ما يمسك عنه الصائم. (2) سورة البقرة الآية 187.


[ 59 ]

لا يجوز مخالفتها للقرآن كما تقدم بيانه ثمة، وما عليه العامة فهو خلاف الحنيفية، لما استفاض من انهم ليسوا من الحنيفية على شئ، وانه لم يبق في ايديهم الا استقبال القبلة وانهم ليسوا الا مثل الجدر المنصوبة، ونحو ذلك مما تقدم ذكره ثمة ايضا، وحينئذ فنقول فيما نحن فيه ان اطلاق الآية مخصوص بالاخبار الدالة على وجوب الغسل، وقد حققنا في المقدمة المشار إليها آنفا انه لا منافاة بين المطلق والمقيد ولا بين العام والخاص حتى يتجه الترجيح بالآية في هذا المقام. ثم ان وجوب الغسل للصوم على القول به هل يختص بما إذا بقي من الليل مقدار ما يغتسل خاصة، فعلى هذا لا يكون الصوم غاية للغسل الا مع تضيق الليل بحيث لا يبقى منه الا قدر فعله علما أو ظنا، فلو اوقعه المكلف قبل ذلك لم يكن الصوم غاية له لعدم المخاطبة به حينئذ، أو يجوز ايقاعه بنية الوجوب من اول الليل وان قيل بوجوبه لغيره ؟ قولان، وظاهر الاكثر الاول ونقل السيد السند في المدارك عن بعض مشايخه – والظاهر انه المولى الاردبيلي (قدس سره) – الثاني، الا انه في المدارك تأوله بالحمل على الوجوب الشرطي زاعما انتفاء الوجوب بالمعنى المصطلح عليه قطعا على هذا التقدير، ويظهر من كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين ان الوجوب هنا على تقدير القول به هو الوجوب المصطلح، حيث قال – في جواب استدلال القائلين بوجوب الغسل لنفسه بانه لو لم يجب لنفسه لم يجب قبل الفجر للصوم لعدم وجوب المغيا قبل وجوب الغاية – ما لفظه: ” واما وجوب غسل الجنابة قبل الفجر للصوم فلوجوب توطين النفس على ادراك الفجر طاهرا والغاية واجبة ” انتهى. اقول: والاظهر في بيان الوجوب هنا ان يقال انه لا شك ان الغسل مما يتوقف عليه الصوم ولا يتم الا به، وقد تقرر في الاصول ان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب، كما قالوا ان قطع المسافة واجب للحج مع انه لا يقع الا قبل الحج، وبالجملة فانه إذا علم أو ظن وجوب الغاية في وقتها فانه لا مانع من وجوب المقدمة وان لم تجب


[ 60 ]

الغاية بعد لكن وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بتضيق الغاية، والى ذلك يشير كلام المحدث الامين الاسترابادي (قدس سره) في تعليقاته على المدارك، حيث قال – بعد نقل كلام السيد (قدس سره) وتأويله كلام بعض مشايخه – ما صورته: ” قلت: مقصوده بالوجوب المعنى المصطلح عليه فانه صالح للنزاع والترجيح، وان شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام والله الموفق، فنقول: مقدمات الواجب المضيق كالصوم يجب تحصيلها قبل وقته، وبعض مقدمات الواجب الموسع وهو ما لا يسعه وقته كذلك، ومنه وجوب معرفة الصلاة واجزائها قبل دخول وقتها، والغسل كالنية من شرائط صحة الصوم ومقدماته فيجب من الليل وجوبا موسعا، لان الوجوب من باب المقدمة انما يكون بحسبه وهو لا يقتضي الا الوجوب الموسع، وما ثبت من انه إذا كان من عادته استمرار نومه الى طلوع الفجر لا يجوز له النوم اختيارا قبل الغسل يدل على وجوبه وجوبا موسعا، وايضا تعلق تكليف الشارع بامر في وقت غير منضبط غير مستقيم. والله اعلم بحقائق احكامه. وبعد ما عرضت ذات ليلة في خير البلاد هذه الدقيقة على الاستاذ العلامة والحبر الفهامة مجتهد زمانه ووحيد اوانه ميرزا محمد باقر الاسترابادي (اطال الله بقاءه) سمعت منه انه في عنفوان الشباب تفطن لهذه الدقيقة وذكرها للعالم الرباني مولانا احمد الاردبيلي (رحمه الله) فلم يرض بها وطال البحث بينهما من غير فيصل، ثم رجع العالم المذكور الى قوله وذكرها في بعض تصانيفه ” انتهى كلامه زيد مقامه. وهو جيد الا انه سيأتي في مسألة وجوب الغسل لنفسه أو لغيره من ظاهر كلامهم ما يدل على الغفلة عن هذه المسألة. واما شرطية الغسل للصوم المستحب فهو قول الاكثر من اصحابنا (رضوان الله عليهم) ومال جملة من متأخرى المتأخرين الى العدم، وتحقيق المسألة مع ما يتعلق بها من الاخبار سيأتي في موضعه ان شاء الله تعالى.


[ 61 ]

تكملة تقييد وجوب الغسل بوجوب الغاية هو المشهور بين الاصحاب (رضوان الله عليهم) وقيل بوجوبه في نفسه، اختاره القطب الراوندي، وذهب إليه العلامة ونقله عن والده سديد الدين يوسف بن المطهر، ومال إليه من متأخرى المتأخرين الفاضل الخراساني في الذخيرة وقبله السيد السند في المدارك، والبحث في المسألة وان كان قليل الجدوى عندنا لانحصار فائدة الخلاف في وجوب نية الوجوب قبل الوقت وعدمه، مع انك قد عرفت مما قدمنا في مبحث نية الوضوء عدم الدليل على ذلك، الا انا جريا على منوالهم (قدس الله ارواحهم وطيب مراحهم) قد قدمنا لك في البحث عن غاية الوضوء ما بقى بتحقيق الحال وازالة الاشكال، من ذكر ما يدل على الوجوب الغيري والجواب عما يدل على الوجوب النفسي، الا انه بقي مما يدل على الوجوب الغيري في خصوص هذه المسألة مما لم نتعرض له آنفا الآية الكريمة اعني قوله سبحانه: “… وان كنتم جنبا فاطهروا… ” (1) وقد تقدم في اول هذا المقصد بيان دلالتها على ذلك. واما ما اجاب به الفاضل الخراساني في الذخيرة عن ذلك – من ان غاية ما يلزم منه وجوبه لاجل الصلاة وذلك لا ينافي وجوبه لنفسه ايضا، فيجوز ان يجتمع فيه الوجوبان، ولا يفهم منه التخصيص ولا يراد البتة، لوجوبه لغير الصلاة كالطواف ومس كتابة القرآن وغيرها بالاتفاق – فمدخول بما قدمنا تحقيقه في مبحث غاية الوضوء. واستدل جملة من متأخرى المتأخرين على ذلك ايضا باخبار الجنب إذا فاجأها الحيض قبل الغسل: و (منها) – حسنة عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليه السلام) (2)


(1) سورة المائدة الآية 9. (2) المروية في الوسائل في الباب 22 من ابواب الحيض.


[ 62 ]

” في المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل ؟ قال: قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل “. ورواية سعيد بن يسار عنه (عليه السلام) (1) ” في المرأة ترى الدم وهي جنب أتغتسل من الجنابة ام غسل الجنابة والحيض واحد ؟ فقال: قد اتاها ما هو اعظم من ذلك ” وموثقة حجاج الخشاب (2) قال: ” سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ، أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرتين ؟ قال تجعله غسلا واحدا عند طهرها ” ومثلها موثقات زرارة وابي بصير وعبد الله بن سنان (3) و (منها) – موثقة عمار عن ابي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: ” سألته عن المرأة بواقعها زوجها ثم تحيض قبل ان تغتسل ؟ قال: ان شاءت ان تغتسل فعلت وان لم تفعل ليس عليها شئ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة “. وجه الاستدلال بها انها قد اشتركت ما عدا الاخيرة في الدلالة على تأخير غسل الجنابة الى بعد الطهر من الحيض وجعل الغسلين غسلا واحدا، وهو مؤذن لا اقل بمرجوحية المبادرة الى الفعل حينئذ مع ان قضية الوجوب النفسي لا اقل رجحان المبادرة الى الواجب وان كان موسعا، سيما مع قوله (عليه السلام) في الرواية الاولى: ” قد جاءها ما يفسد الصلاة ” مفرعا عليه قوله: ” فلا تغتسل ” وقوله في الثانية: ” قد اتاها ما هو اعظم من ذلك ” المشعر بطريق الايماء والتنبيه بان العلة في وجوب غسل الجنابة رفع المفسد للصلاة الذي هو حدث الجنابة، فإذا حصل ما يفسدها وانى ما هو اعظم من ذلك في الافساد قبل الغسل انتفت العلة في وجوبه، فانه (عليه السلام) نفى الغسل معللا بفساد الصلاة، فحاصل كلامه (عليه السلام) ان الغرض من الغسل الصلاة ولما جاء ما يفسدها فلا غسل حينئذ.


(1) المروية في الوسائل في الباب 22 من ابواب الحيض. (2) و (3) و (4) المروية في الوسائل في الباب 43 من ابواب الجنابة.


[ 63 ]

ورد باحتمال حمل الرواية على ان المراد محبئ مفسد الصلاة مانع من الوجوب، إذ شرط تأثير المؤثر ارتفاع المانع. واجيب بان حمل الكلام على هذا المعنى مما يكاد يلحقه بالمعميات والالغاز، بل الاغراء بالجهل والخطاب بما له ظاهر مع ارادة خلاف ظاهره من غير نصب قرينة عليه، وقد ثبت استحالته على الحكيم في الاصول. فلا يليق نسبته الى سادات الانام وابواب الملك العلام (عليهم افضل الصلاة والسلام). والتحقيق عندي هو ما افاده بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين، من ان الرواية المشار إليها لا دخل لها في البين ولا تعلق لها بشئ من القولين، وذلك فان الغرض اللازم من الغسل هو رفع الحدث أو الاستباحة، والرواية قد دلت على سقوط الغسل بطرو الحدث الذي لا يمكن رفعه ولا استباحة الصلاة مع وجوده، إذ التكليف به والحال كذلك تكليف بما لا يطاق، وهو خارج عن حيز الوفاق ولا دخل للوجوب الذاتي أو الغيري فيه، وحينئذ فكما ان الرواية المذكورة ترد القول بالوجوب النفسي باعتبار عدم صحة الغسل في تلك الحال مع ان قضية الوجوب النفسي ذلك، كذلك ترد القول بالوجوب الغيري باعتبار ما اتفق عليه القائلون بذلك من صحة الغسل قبل وقت الغاية واجزائه عن الواجب بعده، مع انه في تلك الحال غير صحيح ولا مجزئ عن الواجب، وايضا فانه بعد زوال المانع المذكور يرجع السبب الى مقتضاه ويعود الخلاف بحذافيره، ومن ذلك يعلم الكلام في باقي الاخبار. نعم ربما اوهم قوله في موثقة عمار: ” ان شاءت ان تغتسل فعلت ” صحة الاتيان بالغسل حينئذ وارتفاع حدث الجنابة. وفيه (اولا) – ان ما عدا هذه الرواية مما هو اكثر عددا واصرح دلالة قد دل على تأخير الغسل وجعله مع الحيض غسلا واحدا. و (ثانيا) – ان الفريقين متفقون على عدم حصول الرفع والاستباحة بالغسل في تلك الحال، فلا ثمرة حينئذ لهذه الصحة ولا اثر يترتب عليها في ذلك المجال، مع ان قوله فيها: ” فإذا طهرت


[ 64 ]

اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة ” دال على ان الغسل الاول لم يكن مجزئا عن غسل الجنابة، فيتعين ان يكون المراد بالغسل المذكور مجرد رفع الاوساخ البدنية وازالة الادناس الحسية، ومن ثم احتمل بعض انه يستنبط من الخبر المشار إليه صحة الغسل لذلك على الاطلاق أو عند تعذر قصد رفع الحدث، وايده بشرعية غسل الاستحاضة، وكون الاغسال الواجبة والمستحبة إذا علم من الشارع ان اصل مشروعيتها لذلك كغسل الجمعة والاحرام لا تتوقف على الطهارة من الحدث وان كانت بحيث لو خلت منه لافادت رفعه، كما قدمنا بيانه في بحث نية الوضوء وينبه على ذلك ما ورد من امر الحائض بغسل الاحرام. واما ما ورد في موثقة سماعة عن ابي عبد الله وابي الحسن (عليهما السلام) (1): ” في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من الجنابة ؟ قال: غسل الجنابة عليها واجب ” فغاية ما يدل عليه ان غسل الجنابة لا يسقط عنها بعروض الحيض بل يجب عليها الغسل إذا طهرت من الحيض وارادت عبادة وان اتحد الغسلان كما دلت عليه الاخبار المتقدمة. واما حملها على استحباب غسل الجنابة في تلك الحال – كما ذكره الشيخ في كتابي الاخبار مستندا الى موثقة عمار الآنفة، فيستفاد منها حينئذ استحباب الغسل في نفسه وان كان واجبا لغيره كما ذكره بعضهم – فتكلف لا ضرورة تلجئ إليه بعد ما ذكرنا، وكيف يتم الحمل على الاستحباب وقد صرح في الرواية بالوجوب، واي ثمرة لهذا الاستحباب مع وجوب اعادته كما عرفت من موثقة عمار. وبالجملة ان ما ذكرناه هو المتبادر من حاق اللفظ والمراد مع سلامته من الطعن والايراد. نعم يبقى الكلام هنا في ان جملة من القائلين بالوجوب الغيري صرحوا باستحباب الغسل قبل اشتغال الذمة بالغاية الواجبة، حتى اورد عليهم الغسل لاجل الصوم، فأجاب بعضهم بان الغاية انما هي توطين النفس على ادارك الفجر متطهرا كما عرفته آنفا من كلام شيخنا البهائي (عظم الله مرقده) واجاب آخر بالتخصيص بما عدا الصوم.


(1) المروية في الوسائل في الباب 43 من ابواب الجنابة.


[ 65 ]

وانت قد عرفت آنفا ان قضية توقف الواجب عليه وكونه مما لا يتم الواجب إلا به هو وجوبه متى علم وجوب الغاية في وقتها كما عرفت، ومن الظاهر ان الصلاة متوقفة على الغسل فيكون واجبا لاجلها، وهو كما يحصل بعد دخول الوقت وتستباح به العبادة حينئذ يحصل ايضا قبل دخوله وتحصل به الاستباحة ايضا، فكل من الامرين فرد للواجب، فيكون الغسل قبل الوقت واجبا وان قلنا بانه واجب لغيره، وحينئذ تضمحل فائدة الخلاف من البين بناء على وجوب نية الوجه والا فقد عرفت انه لا ثمرة ايضا للبحث في المقام، وكذا لو قلنا بوجوبها وقلنا ان قصد الوجوب في المندوب غير ضائر كما اختاره الشهيد (رحمة الله تعالى).